
قبس بريس:
الكلمة الافتتاحية
للسيدة وزيرة الاقتصاد والمالية
بمناسبة المناظرة الوطنية الأولى حول تدبير منازعات الدولة والوقاية منها
الثلاثاء 15 أبريل 2025
السيدات والسادة الوزراء؛
السيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية؛
السيد رئيس النيابة العامة؛
السيدات والسادة رؤساء المؤسسات والهيئات الدستورية؛
السيدات والسادة الخبراء والمسؤولون من مصر والسنغال وفرنسا واسبانيا؛
حضرات السيدات والسادة؛
أيها الحضور الكريم،
لقد دشنت بلادنا منذ تسعينات القرن الماضي العديد من الأوراش الإصلاحية التي تصب في اتجاه تعزيز دولة الحق والقانون وتقوية دور المؤسسات وتحقيق التنمية، بحيث كانت جهود المملكة المغربية تحت القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة حفظه الله تروم تعزيز المشروعية وتجويد الخدمة العمومية وإرساء دعائم اقتصاد تنافسي قادر على مواجهة تحديات التحولات التي تعرفها السوق العالمية، وهو ما تطلب إصلاح المنظومة القانونية والمؤسساتية للرفع من نجاعة الإدارة وتشجيع المبادرة الحرة وجلب وتوطين الاستثمار، وذلك بإصلاح المقتضيات القانونية المتعلقة بالتجارة والاستثمار والصفقات العمومية وإحداث المحاكم الإدارية والمحاكم التجارية، وغيرها من الإصلاحات التي تعززت بصدور دستور المملكة لسنة 2011 وما تلاه من استراتيجيات وبرامج على رأسها إصلاح منظومة العدالة واعتماد النموذج التنموي الجديد.
وإذا كانت هذه الجهود قد أسهمت في الرفع من نجاعة الإدارة العمومية بشكل انعكس إيجابا على مناخ الاستثمار وتنافسية الاقتصاد الوطني وعلى منسوب الرضا إزاء الخدمات العمومية، فإنه بالمقابل سجلت التقارير الرسمية وجود مجموعة من الإشكالات المرتبطة بتدبير العلاقة بين الإدارة والمتعاملين معها عند نشوء بعض الخلافات التي تتطور إلى منازعات أمام القضاء الوطني وهيئات التحكيم، وفق ما تؤكده الإحصائيات المتعلقة بمنازعات الدولة والتي عرفت في ظرف عشر سنوات ارتفاعا يناهز 100%، بحيث انتقل عدد القضايا الجديدة التي تتوصل بها الوكالة القضائية للمملكة من 14.505 قضية جديدة سنة 2014 إلى 21.218 قضية جديدة سنة 2024، مع ملاحظة أن هذا الرقم يهم الثلث (1/3) فقط من منازعات الدولة، إذ تسجل المحاكم الإدارية بالمملكة 60.000 قضية سنويا في حين لا تتوصل الوكالة القضائية سوى بـ 20000 قضية جديدة سنويا، بالإضافة إلى مخزون القضايا الذي تتولاه والذي يناهز 200.000 قضية.
ويتطلب هذا الوضع إيلاء المزيد من العناية لمنظومة تدبير منازعات الدولة، حتى تتكامل الجهوذ المبذولة على مستوى الحكامة والإصلاحات المؤسساتية مع جهوذ ترشيد الإنفاق العمومي والاستغلال الأمثل للموارد العمومية، فضلا عن تفادي ما ينجم عن منازعات الدولة من إشكالات تؤثر سلبا على إنجاح البرامج العمومية والمشاريع الكبرى.
حضرات السيدات والسادة:
إن الرفع من جودة تدبير منازعات الدولة وعقلنة اللجوء إلى المساطر القضائية له ارتباط وثيق بالجهود الرامية إلى دعم تنافسية الاقتصاد الوطني وتحسين مناخ الاستثمار وتحقيق التنمية المنشودة، خاصة أمام تزايد حدة المنافسة العالمية وقلة الموارد وما يعرفه العالم من ظروف صعبة، على نحو جعل دول العالم على اختلاف ظروفها وإمكانياتها تعمل على استثمار وتوظيف كافة الوسائل والفرص المتاحة لدعم تنافسيتها الاقتصادية وجلب الاستثمار وولوج السوق ، وفق ما أكد على ذلك جلالة الملك حفظه الله، في الخطاب الملكي السامي بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الأولى من الولاية التشريعية العاشرة والذي جاء فيه:
“فعلى الجميع مواكبة التطور والانخراط في الدينامية المؤسسية والتنموية، التي نقودها ببلادنا.
والكل مسؤول عن نجاعة الإدارة العمومية والرفع من جودتها باعتبارها عماد أي إصلاح وجوهر تحقيق التنمية والتقدم الذي نريده لأبناء شعبنا الوفي”. انتهى النطق الملكي السامي.
وإذا كانت منازعات الدولة تعتبر تجسيدا لدولة الحق والقانون وصونا للمشروعية، وفقا لأحكام الفصل 6 من دستور المملكة الذي ينص على أن: ” القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة والجميع، أشخاصا ذاتيين أو اعتباريين، بما فيهم السلطات العمومية، متساوون أمامه وملزمون بالامتثال له”، فإنه بالمقابل، يجب الحرص على حماية المال العام وترشيد النفقات العمومية وحماية مصالح الدولة، عبر الوقاية من المنازعات وإنزال كلفتها إلى حدودها الدنيا.
ولذلك، فإن رهان التدبير الأمثل لمنازعات الدولة والوقاية منها، هو في حقيقة الأمر رهان على نجاعة الإدارة العمومية وتعزيز المشروعية وحماية الاستثمار وترشيد الإنفاق العمومي، بحيث يجب أن تكون الاستراتيجية الوطنية للرفع من نجاعة تدبير منازعات الدولة في صلب باقي البرامج التي تنفذها الحكومة في مجال الرقمنة و نجاعة الإدارة وتعزيز شفافية الاإدارة، ومن اللازم في ظل هذه المرحلة وما تعرفه من تحديات ورهانات وأوراش كبرى، وضع مخطط عمل وطني لتدبير منازعات الدولة تدبيرا عقلانيا مبنيا على التنسيق والتعاون واستباق المنازعات والحيلولة دون تحولها إلى مصدر لإفشال البرامج والمشاريع الاستراتيجية وإهدار المال العام وزعزعة ثقة المواطن والمستثمر في الإدارة العمومية .
و في هذا الإطار سبق للوكالة القضائية للمملكة التابعة لوزارة الاقتصاد والمالية أن أجرت بتنسيق مع شركائها تشخيصا لواقع تدبير المنازعات، و أعدت مخططا استراتيجيا للفترة 2024 -2028 من أجل تنسيق جهود الرفع من نجاعة تدبير المنازعات والوقاية منها، وفي إطار تنزيل هذه المحاور الاستراتيجية على أرض الواقع، تم تسطير26 برنامجا و73 إجراء تنفيذيا من أجل تحقيق الأهداف التالية:
- توحيد الرؤية والاستراتيجية بشأن تدبير منازعات الدولة، واعتماد منهجية موحدة للدفاع عن مصالح الدولة أمام القضاء والوقاية من المنازعات ، من خلال مركزة القضايا لدى الوكالة القضائية للمملكة؛
- إحداث قنوات للتنسيق والتواصل و طلب الرأي، من أجل خلق شبكة للدفاع عن مصالح الدولة أمام القضاء وحماية المال العام وتقاسم خبرة وتجربة الوكالة القضائية للمملكة مع باقي الشركاء؛
- استباق المنازعات عبر الوقاية و المواكبة و التنسيق مع الشركاء لاتخاذ التدابير اللازمة للحد من المخاطر أو على الأقل إنزالها إلى حدودها الدنيا؛
- وضع منظومة متكاملة لليقظة تجمع بين تتبع القضايا والتحكم في تواريخ الجلسات وآجال الطعون، وتأمين الحضور والدفاع في جميع القضايا، والرفع من مستوى التوقع القانوني من أجل الاستعداد المسبق لمتغيرات التشريع والاجتهاد القضائي؛
- دعم قدرات الوكالة القضائية للمملكة من أجل جعلها مركزا للخبرة في مجال تدبير منازعات الدولة والوقاية من مخاطرها، لا سيما عبر مدها بموارد بشرية نوعية ومتخصصة، قادرة على مواكبة الإدارات والمؤسسات العمومية، خلال مراحل التعاقد واتخاذ القرار، إضافة إلى مراجعة تنظيمها الهيكلي وتطوير أدوات ومناهج اشتغالها وتطوير نظامها المعلوماتي وتوفير الإطار القانوني المناسب لأدوارها الجديدة.
علما أن الوكالة القضائية قد شرعت فعلا في تنفيذ مخططها الاستراتيجي، حيث عملت على تنفيذ مجموعة من البرامج ذات الطابع الإستعجالي على رأسها إحداث منصة مواكبة لطلب الرأي و المشورة و إحداث مركز النداء لمواكبة الإدارات العمومية أثناء التعاقد واتخاذ القرار و إحداث خلية اليقظة التي تضم أربعة مكاتب و إخراج النشرة الفصلية لتمكين الإدارات العمومية من آلية دورية لليقظة، فضلا عن إحداث لجنة تضم الإدارات الشريكة للتعاقد مع المحامين بناء على معايير الكفاءة والمردودية و الشفافية والمساواة، وتوقيع اتفاقيات شراكة بعضها مدرج خلال أشغال هذه المناظرة،وتجويد المنتوج الوثائقي المعد للدفاع عن الدولة أمام القضاء وهيئات التحكيم و برمجة المناظرة الوطنية حول تدبير منازعات الدولة والوقاية منها.
وأتمنى أن تكون هذه المناظرة فرصة لبلورة توصيات ومخرجات تسمح بوضع استراتيجية وطنية لتدبير منازعات الدولة والوقاية منها، تأخذ بعين الاعتبار الإكراهات المسجلة على المستوى القانوني في مجال نزع الملكية وضرورة إخراج القانون المنظم للملك الخاص للدولة و مراجعة الإطار القانوني المنظم للوكالة القضائية للمملكة ، وغيرها من الإشكالات ذات الطبيعة القانونية، إضافة إلى الإشكالات المرتبطة بالجانب التدبيري وما يتطلبه من برامج للحكامة والوقاية من المنازعات وخلق آليات للتنسيق ووضع حد للمشاكل المرتبطة بشأن تدبيرها، فضلا عن المشاكل المرتبطة بالهياكل والبنيات الإدارية التي تحتاج إلى التأهيل والدعم حتى تكون قادرة على رفع التحدي وكسب رهان التدبير الأمثل لمنازعات الدولة والوقاية منها.
ولا شك أن تظافر الجهود وتكامل الأدوار ووضع آليات وبرنامج مدعم بإجراءات تنفيذية لتنزيل توصيات المناظرة، من شأنه أن يسهم في تجويد سياسات الوقاية من المنازعات وتعزيز مهمة الدفاع عن الدولة وأشخاص القانون العام، إضافة إلى ترشيد الإنفاق العمومي.
لذلك، لا يسعني في الختام إلا أن أتقدم بالشكر الجزيل لكل من ساهم في إنجاح هذه المناظرة، كما أشكر الحضور الكريم والخبراء والمسؤولين من مصر والسنغال وفرنسا واسبانيا الذين تكبدوا عناء التنقل لتقاسم خبراتهم وتجاربهم معنا، سائلة الله تعالى أن يوفقنا جميعا في تحقيق الغايات المرجوة من هذه المناظرة.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.