أقلام حرة

مختصو الاقتصاد والإدارة… حينما يتحول التهميش إلى سياسة ممنهجة

 قبس بريس: عبد الواحد سامي

في الوقت الذي ترفع فيه وزارة التربية الوطنية شعار الإصلاح والتحديث وتدّعي سعيها إلى ترسيخ مبادئ الحكامة الجيدة وتكافؤ الفرص بين مختلف أطرها، نجد فئة “مختصي الاقتصاد والإدارة” تعيش على هامش هذا الخطاب الرسمي، في واقع مرير لا يعكس سوى الحيف والتجاهل والتمييز المؤسساتي هم أطر مؤهلون، متخرجون من مراكز التكوين في تخصصات دقيقة تتعلق بالتدبير المالي والمادي والإداري والقانوني للمؤسسات التعليمية، لكنهم رغم ذلك يجدون أنفسهم اليوم في موقع “المغضوب عليهم” من قبل الوزارة الوصية، دون تفسير مقنع، ولا معالجة منصفة لوضعيتهم المهنية والمادية.

منذ سنوات، يعاني مختصو الاقتصاد والإدارة في صمت، يتذمرون من واقعهم خلف المكاتب، أو في الميدان داخل المؤسسات التعليمية، دون أن يُلتفت إلى مشاكلهم، ودون أن تُمنح لهم فرصة إسماع صوتهم وسط ضجيج ملفات أخرى تحظى بالأولوية والاهتمام، ولعل أبرز أوجه هذا التهميش تتجلى في استثنائهم الصارخ من الحركة الانتقالية الجهوية، التي استفاد منها أغلب موظفي قطاع التعليم، ورغم أن هذه الحركة تشكل مناسبة لإعادة توزيع الأطر حسب القرب الاجتماعي والوظيفي، إلا أن فئة مختصي الاقتصاد والإدارة تم تهميشها بشكل يدعو للاستغراب، دون تقديم مبررات قانونية أو تنظيمية، وهو ما يدفع كثيرين منهم للقول إن مكانتهم الإدارية داخل الوزارة أصبحت “دونية”، لا تعكس لا كفاءتهم ولا تضحياتهم إن عدم تمكين هذه الفئة من الانتقال الجهوي لا يترتب عنه فقط إرهاق نفسي وأسري، بل يؤثر أيضًا على استقرارهم الوظيفي، وعلى عطائهم المهني، ويكرس لديهم شعورًا دفينًا بالإقصاء والإهانة والأنكى من ذلك أن هذا الوضع يُكرّس عامًا بعد عام، دون مؤشرات واضحة على تغييره، بل على العكس، تزداد الهوة اتساعًا بين الخطاب الوزاري والواقع الإداري المعيش.

إلى جانب هذه الإشكالية، طفت على السطح خلال السنة الجارية معضلة أخرى لا تقل خطورة، وهي “تأخر تعيين فوج مختصي الاقتصاد والإدارة لسنة 2025 التأخر لم يكن مجرد خلل إداري عابر، بل مسّ مئات الخريجين الجدد الذين قضوا شهورًا في الانتظار، وسط ارتباك كبير، وغموض مطبق حول مصيرهم المهني الأمر الذي تسبب لهم في معاناة نفسية حادة، واحتقان مشروع، وسخرية من العبث الإداري الذي يميز تدبير الوزارة لهذا الملف.

لقد تحوّل هذا التأخر إلى موضوع للتندر بين المختصين، بعدما ضاعت عليهم فرص كثيرة في الاستقرار والتخطيط لمستقبلهم، في الوقت الذي ظلت الوزارة عاجزة عن تقديم تبرير مقنع أو توضيح رسمي، الأمر الذي يعكس مرة أخرى غياب الرؤية، وافتقار الإدارة المركزية للتخطيط السليم في تدبير الموارد البشرية.

وفي مشهد آخر يعكس العبث ذاته، يعيش مختصو الاقتصاد والإدارة معاناة من نوع مختلف مع ما يُفترض أن يكون تعويضًا عن مصاريف التنقل أو المهام الإدارية، فبدل صرف تعويض واضح، مباشر، يحترم كرامة الموظف، تفرض عليهم الوزارة المرور عبر مساطر بيروقراطية مهينة، من بينها تقديم “فاكتورة” موقعة من مزود، تتضمن مقتنيات استهلاكية عادية مثل مادة “الفاخر”، وذلك فقط ليتمكن الموظف من المطالبة بحقه في تعويض بسيط! وكأن الأمر يتعلق بصدقة لا بمستحق وظيفي مشروع.

الطامة الكبرى أن طريقة صرف هذه التعويضات تفتقر لأدنى درجات الشفافية، حيث يتم التعامل معها داخل المديريات الإقليمية بمنطق المحسوبية والزبونية، مما يُقصي البعض، ويُفضل البعض الآخر بناء على الولاءات الشخصية أو العلاقات الإدارية، وهذا الوضع يضرب في العمق أسس العدالة الإدارية، ويؤسس لتمييز ممنهج بين الموظفين داخل الفئة الواحدة، وإزاء هذه الممارسات المهينة، يُجمع مختصو الاقتصاد والإدارة على ضرورة مراجعة طريقة صرف هذه التعويضات، وإدماجها ضمن الراتب الشهري كتعويض واضح عن أعباء التنقل، يُصرف بانتظام ودون شروط تعجيزية، حفاظًا على كرامة الموظف، وضمانًا للشفافية والمساواة،ولعل المفارقة الصادمة في كل هذا السياق، أن مختصي الاقتصاد والإدارة   مطلوب منهم العمل 38  ساعة أسبوعيًا، تمامًا كباقي أطر الإدارة التربوية، ويُحاسبون على الانضباط والنجاعة دون أن يستفيدوا من التعويضات الإدارية التي يحصل عليها زملاؤهم المنتمين لنفس الهيئة هذا التمييز الفج لا يجد له مبررًا في القانون ولا في المنطق، ويشكل خرقًا صارخًا لمبدأ المساواة داخل الوظيفة العمومية، ما يبرر شعورًا عارمًا بالظلم والحيف لدى هذه الفئة، التي تعتبر نفسها الحلقة الأضعف داخل المنظومة، لكن الصورة تزداد قتامة حين ننظر في المسار المهني لمختصي الاقتصاد والإدارة، الذي يكاد يكون الأسوأ مقارنة مع باقي المسارات داخل القطاع، فهذه الفئة، ورغم تخصصها، ومهامها الحيوية داخل المؤسسات لا يُسمح لها بالترقي إلى منصب مفتش الشؤون المالية إلا بعد المرور الإجباري من مباراةالممون، في حين أن الممون نفسه يشتغل بنفس المهام وربما أقل، دون أن يتحمل المهام الثقيلة المتعلقة بتسيير الداخليات والمطاعم، التي توكل غالبًا إلى مختصي الاقتصاد والإدارة، لا سيما في المناطق القروية والبعيدة التمييز هنا لا يتعلق فقط بالترقية، بل يمتد إلى ظروف العمل نفسها. ففي الوقت الذي يُعيّن فيه الممونون في مؤسسات حضرية، مريحة من حيث البنية التحتية والإدارية، يُدفع بمختصي الاقتصاد والإدارة إلى العمل في أقاصي البوادي والفيافي، داخل مؤسسات تفتقر لأبسط شروط العمل، دون تحفيز، ودون اعتراف ومع ذلك، حين يطالبون بحقهم في الترقي يُقال لهم: “عليكم أولًا اجتياز مباراة الممون”.

هذا الوضع يطرح سؤالًا منطقيًا: إذا كانت الوزارة قد ارتضت أن تسند لمختصي الاقتصاد والإدارة مهام التسيير المالي والإداري، فلماذا لا تعترف بكفاءتهم حين يتعلق الأمر بالترقية إلى مناصب التفتيش؟ هل كانوا غير مؤهلين عندما وُضعوا على رأس التدبير المالي؟ أم أن هناك خلفيات أخرى غير معلنة وراء هذا الإقصاء الممنهج؟

إن هذا السؤال، وإن بدا بسيطًا، يفتح الباب على جملة من التساؤلات الأخرى حول نوايا الوزارة، وحول طبيعة السياسات التي تحكم تدبير الموارد البشرية، ومدى التزامها بمبادئ الشفافية والعدالة والاستحقاق.

في النهاية، لم تعد هذه الفئة تطالب سوى بحقوقها البسيطة: انتقال عادل، تعويضات واضحة، مسار مهني منصف، وتقدير حقيقي لما تقوم به من مهام داخل المؤسسات التعليمية لا تطلب تفضيلات، ولا امتيازات استثنائية، فقط تطالب بأن تُعامل كباقي الأطر، بنفس الدرجة من الإنصاف.

وإلى حين تحقق هذا المطلب، سيظل مختصو الاقتصاد والإدارة يعانون في صمت، صمت يكشف ما لا يقوله الخطاب الرسمي، ويصرخ بما لا تُجاهر به البلاغات الوزارية، صمتٌ قد لا يدوم طويلًا، إذا ما استمر هذا الإجحاف الممنهج دون تصحيح أو اعتراف.

عبد الواحد سامي: إطار بوزارة التربية الوطنية وعضو السكرتارية الوطنية لمختصي الاقتصاد والإدارة العضو في الفيدرالية الدمقراطية للشغل FDT.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى